سورة القصص - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


قلت: {سرمداً}: مفعول ثان لجعل، وهو من السرد، أي: التتابع، ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد وواحد فرد، والميم زائدة، فوزنه: فعْمَل.
يقول الحق جل جلاله: {قل أرأيتم}؛ أخبروني {إن جعل الله عليكم الليلَ سرمداً}؛ دائماً؛ بإسكان الشمس تحت الأرض، أو بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض، أو بإخفاء نورها، {مَنْ إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيكم بضياءٍ}، وحقه: هل إله غير الله، وعبّر ب {مَن} على زعمهم أن غيره آلهة، أي: هل يقدر أحد على هذا؟ {أفلا تسمعون} سماع تدبر واستبصار؟.
{قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهارَ سرمداً إلي يوم القيامة} بإسكانها في وسط السماء، أو: بتحريكها فوق الأفق فقط، {مَنْ إِلهٌ غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه}؛ استراحة من متاعب الأشغال؟ ولم يقل: بنهارتتصرفون فيه، كما قال: {بليل تسكنون فيه}، بل ذكر الضياء، وهو ضوء الشمس؛ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، وليس هو التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس هو بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء. {أفلا تسمعون}؛ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، من ذكر منافعه، ووصف فوائده، وقرن بالليل {أفلا تُبصرون}؛ لأن غيرك يُبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
{ومن رحمته} تعالى {جَعَلَ لكم الليلَ والنهارَ لتسْكُنُوا فيه}؛ في الليل {ولِتَبْتَغوا من فضله} بالنهار بأنواع المكاسب. وهو من باب اللف والنشر. وقال الزجاج: يجوز أن يكون معناه: لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من الله فيهما، ويكون المعنى: جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً؛ لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله، {ولعلكم تشكرون} أي: ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.
ثم قَرَّعهم على الإشراك، بعد هذا البيان التام، بقوله: {ويومَ يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} وكرر التوبيخ على الشرك، ليؤذن ألاَّ شيء أجلبُ لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. وقال القرطبي: أعاد هذا؛ لاختلاف الحالين، ينادون مرة، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم، فيظهر كذبهم. ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون، وهو توبيخ وزيادة خزي. ثم طرق كون المناداة من الله، أو ممن يأمره بذلك، لقوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} [البقرة: 174]، ويحتمل: ولا يكلمهم بعد قوله: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] أو: ولا يكلمهم كلام رضا. اهـ.
{ونزعنا}؛ وأخرجنا {من كل أُمةٍ شهيداً}، وهو نبيهم، يشهد عليهم بما كانوا عليه؛ لأن الأنبياء شهداء على أممهم، {فقلنا} للأمم: {هاتوا برهانكم} على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول، {فعلموا} حينئذٍ {إن الحق لله} في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره، {وضل عنهم}؛ غاب غيبة الشيء الضائع {ما كانوا يَفترون} من ألوهية غير الله وشفاعة أصنامهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهار البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم: (بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه). وقال فارس رضي الله عنه: القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا. اهـ.


قلت: {قارون}: غير مصروف؛ للعجمة والتعريف، ولو كان فاعولاً؛ من قرنت الشيء، لا نصرف لخروجه عن العجمة. {إذ قال}: ظرف لبَغَى أي: طغى حين وُعِظ، ولم يقبل ما وُعظ به، أو: يتعلق بمقدر، أي: أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه: لا تفرح. و {ما}: موصولة، و {إنَّ مفاتحه}: صلته، ولذلك كسرت.
يقول الحق جل جلاله: {إنَّ قارون كان من قوم موسى} كان إسرائيلياً، ابن عم لموسى وابن خالته، فهو قارون بن يصهر بن قَاهَث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهَث. وكان يسمى المنور؛ لحُسن صورته وكان آمن بموسى، وكان أحفظ الناس للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري. {فَبَغَى عليهم}، من البغي، أي: الظلم: قيل: ملَّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. أو: من البغي، أي: الكبر، أي: تكبر عليهم بكثرة ماله وولده، وزاد عليهم في الثياب شبراً، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
{وآتيناه من الكنوز ما} الذي {إنَّ مفاتِحَه}؛ جمع مِفتح، بمعنى المقَلد، أي: إن مقاليده {لَتَنُوءُ} أي: تثقل {بالعُصْبَةِ}، الباء للتعدية، يقال: ناء به الحمل: أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة، وكانت مفاتح خزائنه وقرَ ستين بغلاً، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على إصبع. وكانت من جلود، أي: مغاليقها. وقيل: معنى تنوء: تنهض بِتَكَلُّفِ، ويكون حينئذٍ في الكلام قلب؛ إذ العصبة هي التي تنوء بالمفاتح، لا العكس، قيل: وسميت أمواله كنوزاً؛ لأنه كان لايؤدي زكاتها، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته.
{إذْ قال له قومُه لا تفرح}؛ لا تبطر بكثرة المال؛ فرَح إعجاب؛ لأنه يقود إلى الطغيان. أو: لا تفرح بالدنيا؛ إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له، {إن الله لا يُحب الفَرِحِين} البطرين المفتخرين بالمال، أو: الفرحين بزخارف الدنيا، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها. قال البيضاوي: الفرح بالدنيا مذموم مطلقاً؛ لأنه نتيجة حبها والرضا بها، والذهول عن ذهابها، قإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارق لا محالة، يوجب التوخي لا محالة، كما قيل:
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرورٍ *** تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
{وابتغِ فيما آتاك الله} من المال والثروة {الدارَ الآخرة}؛ بأن تتصدق على الفقراء تصل الرحم، وتصرفه في أنواع الخير، {ولا تنس نصيبَكَ من الدنيا}، وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك. وقيل: معناه: واطلب بدنياك آخرتك؛ فإن ذلك حظ المؤمن منها لأنها مزرعة الآخرة، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات، أي: لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة، {وأحسنْ} إلى عباد الله {كما أحسن الله إليك} فيما أنعم به عليك: أو: أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام.
{ولا تبغِ الفسادَ في الأرض} بالظلم والبغي وإنفاق المال في المعاصي؛ {إن الله لا يحب المفسدين}؛ لا يرضى فعلهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها بل الفرح بكل ما يَفنِي: كُلُّهُ مذموم. قال في الإحياء: الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل يسري في العروق فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة وهذا هو موت القلب والعياذ بالله فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر، فقطعوا النفس عن ملاذها وعودوا الصبر عن شهواتها حلالها وحرامها وعلموا أن حلالها حساب وهو نوع عذاب ومن نوقش الحساب عُذّب فخلَصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته. اهـ.
وقال يُمْن بن رزق: اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب: أنْسُ القلب بالوحدة. اهـ. قلت: وهذا مذهب العباد والزهاد وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه.


يقول الحق جل جلاله: {قال} قارون: {إنما أُوتيته} أي: المال {على علم عندي} أي: على استحقاق مني، لِمَا فيّ من العلم الذي فَضلت به الناس، وهو علم التوراة، وكان أعلم الناس به بعد، موسى وهارون، وكان من العباد، ثم كفر بعد ذلك. وذكر القشيري أنه كان منقطعاً في صومعة للعبادة، فصحبة إبليسُ على العبادة، واستمر معه على ذلك، وهو لا يشعر، إلى أن ألقى إليه: إن ما هما عليه، من الانقطاع عن التكسب، وكون أمرها على أيدي الناس، ليس بشيء، فرده إلى الكسب بتدريج، إلى أن استحكم في حب الدنيا والجمع والمنع، ثم تركه. اهـ. وقيل: المراد به علم الكيمياء، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. أو: العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة، أو: العمل بكنوز يوسف.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يعلم أن الله قد أهلكَ مِنْ قبله من القرون مَنْ هو أشدُّ منه قوةً وأكثرُ جَمْعاً}، أي: أو لم يكن في علمه، من جملة العلم الذي عنده، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى، وأكثر جمعاً للمال، أو أكثر جماعة وعددا، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك؛ لأن قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ. أو: نفيٌ لعلمه بذلك؛ لأنه لَمَّا قال: {أُوتيته على علم عندي}؛ قيل له، أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله، حتى يَقِيَ نفسه مصارع الهالكين.
{ولا يُسْئل عن ذنوبهم المجرمون}، لعلمه تعالى بعملهم، بل يُدخلهم النار بغتة.
أو: يعترفون بها بغير سؤال، أو: يُعرفون بسيماهم فلا يُسألون، أو: لا يُسألون سؤال توبيخ، أو لا يُسْأَلُ المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين. قال محمد بن كعب: هو كلام متصل بما قبله، والضمير في {ذنوبهم}؛ عائد على من أهلك من القرون، أي: أُهلكوا، ولم يُسْأَلُ غيرهم بعدهم عن ذنوبهم، بل كان أحد إنما يُعاتب على ما يخصه. اهـ. وإذ قلنا هو؛ في القيامة فقد ورد في آيات أخر أنهم يُسْألون، ويومُ القيامة مواطن وطوائف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا خص الله عبداً بخصوصية فلا ينسبها لنفسه، أو لحوله وقوته، أو لكسبه ومجاهدته، بل يشهدها منَّةً من الله عليه، وسابق عناية منه إليه، قال سهل رضي الله عنه: ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله، وفتح له سبيل رؤيةِ مِنَّةِ الله عليه، في جميع الأفعال والأقوال. والشقي مَنّ زُيِّنَ له في عينه أفعالهُ وأقوالُه وأحوالُه، ولا فتِحَ له سبيلُ رؤيةِ منَّةِ الله عليه، فافتخر بها وادعاها لنفسه، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون. لَمّا ادعى لنفسه فضلاً. اهـ.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10